غاب “قط” الإصلاحات، فأخذ “فأر” الزيادات على رواتب القطاع العام مجده. إضافات بآلاف المليارات من الليرات، تحت مسمّى “مساعدة إجتماعية”، لا تقدّم للموظفين ما يسدّ رمقهم، ولا تزيد انتاجيتهم بأقل الإيمان، كما تؤخر في المقابل الآمال بالتعافي. فالتقديمات التي تعطى من طباعة الأموال ترفع التضخم، تعمّق الخسائر في مصرف لبنان، وتزيد عجز الموازنة العامة.
أمام انعدام التوافق على خطة للتعافي، والعجز الفاضح عن القيام بالإصلاحات المطلوبة، والخروج بموازنة لا “تميت” تقديمات الدولة، ولا “تفني” موظفيها، بدأت السلطة التنفيذية اعطاء كل من يتقاضى راتباً او أجراً أو مخصصات من الأموال العمومية “مساعدة مالية”. فصدرت منذ مطلع العام الحالي 6 قرارات بين مراسيم رئاسية وتعاميم حكومية وقرارات وزارية تجيز لوزارة المال إعطاء سلفات خزينة لهذا الغرض.
في 28 كانون الثاني 2022 وقع رئيس الجمهورية مجموعة من هذه المراسيم منها:
– المرسوم رقم 8737 القاضي باعطاء مساعدة اجتماعية موقتة لجميع العاملين في القطاع العام والمتقاعدين. حددت قيمة المساعدة بنصف راتب عن شهر تشرين الثاني ونصف راتب عن شهر كانون الأول 2021. تسدد على دفعتين متساويتين، على ألّا تقل الدفعة الواحدة عن 1.5 مليون ليرة، ولا تزيد عن 3 ملايين ليرة. وقدرت كلفة هذه المساعدة بـ 810 مليارات ليرة.
– المرسوم رقم 8738 القاضي باعطاء منح تعليم بصورة موقتة للمستخدمين والعمال عن العام الدراسي 2021-2022. تبلغ قيمة المنحة مليون ليرة عن كل طالب منتسب إلى المدرسة والجامعة، سواء كانت رسمية أو خاصة. على ألا تزيد المنحة عن 4 ملايين ليرة للعائلة الواحدة. لم يحدد المرسوم الكلفة الاجمالية لهذه المنحة، إلا أن احتساب أعداد التلاميذ المقدرة بحدود المليون في مختلف المراحل، وأعداد طلاب مرحلة التعليم العالي المقدر عددهم بحدود 222 ألفاً، نستنتج ان كلفة هذه المنحة ستبلغ تقريباً حوالى 1200 مليار ليرة. سيتحمّل منها القطاع العام نسبة تبلغ 50 في المئة على أقل تعديل.
– المرسوم رقم 8739 القاضي باعطاء تعويض نقل شهري مقطوع للعسكريين في الجيش وقوى الامن الداخلي والامن العام وأمن الدولة والضابطة الجمركية وشرطة مجلس النواب من مختلف الرتب بقيمة مليون و200 الف ليرة لبنانية، يضاف الى تعويض الانتقال اليومي المستحق للعسكريين. وإذا افترضنا أن عدد القوى المسلحة في لبنان يبلغ حوالى 120 ألف عنصر، فان الكلفة الشهرية لهذه الزيادة ستبلغ 144 مليار ليرة، أو ما يعني 1728 مليار ليرة سنوياً.
– المرسوم رقم 8741 القاضي بتعديل مقدار تعويض النقل الموقت للعاملين في القطاع العام بحيث يصبح 64 الف ليرة لبنانية عن كل يوم حضور فعلي. كلفة هذه المساعدة ستبلغ حوالى 4600 مليار ليرة، إذا افترضنا أن عدد الموظفين باستثناء أفراد القوى المسلحة يبلغ حوالى 200 ألف.
– التعميم رقم 2022/4، الصادر عن رئيس الحكومة والذي يستند إلى المرسوم 8838 تاريخ 22/2/2022. ويقضي بتمديد المساعدة الاجتماعية لجميع موظفي الدولة واعطائهم مبلغاً يتراوح بين 1.5 مليون ليرة و3 ملايين ليرة، وذلك إلى حين صدور قانون الموازنة العامة للعام 2022. بكلفة قد تتجاوز 5 مليارات ليرة لغاية نهاية العام في حال لم تقر الموازنة.
الحصيلة العامة لهذه الزيادات فقط تقدر بحوالى 13 ألف مليار ليرة، وإذا ما أضيفت إلى كلفة الرواتب والاجور المقدرة بـ 9 آلاف مليار ليرة فان المبلغ سيرتفع إلى أكثر من 22 ألف مليار ليرة. والأمور لن تقف هنا، فموظفو المؤسسات العامة والادارات المستقلة بدأوا يضربون تباعاً للمطالبة بزيادة على رواتبهم أسوة بموظفي الإدارة العامة ومنهم على سبيبل الذكر لا الحصر موظفو هيئة أوجيرو. الكلفة مرهقة على الاقتصادعلى الرغم من هذا كله فان هذه الزيادات الهائلة لم ترضِ موظفي الدولة. وقد أعلنت مثلاً الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الادارة العامة أن الحكومة لم تقارب مطالبهم. والمساعدة التي اشتُرطت بالحضور اليومي لم تكن غايتهم. وعليه سيستمرون بإضرابهم العام باستثناء يوم الاربعاء من كل أسبوع. و”هذا حقهم”، بحسب عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان رمّال. “إذ أن بدل النقل الشهري لا يكفي لأيام معدودة، والرواتب رغم الزيادات تبقى معدومة أمام نسب الغلاء والتضخم”. إلا أن كلفة هذه الزيادات ستكون مرهقة على الاقتصاد، وهي لن تقابل بزيادة في الإيرادات بسبب الانكماش من جهة، واستمرار الادارة العامة بالاقفال من جهة ثانية، وعدم توفر أبسط مقومات خدمة المواطنين من كهرباء وقرطاسية ولوازم مكتبية. وبحسب رمال، فان “هذه الزيادات تساهم بالتضخم وارتفاع الاسعار. فكلما طبعنا ليرات ووسعنا الصرف زاد الاستهلاك. وهي ستضاف إلى ارتفاع الانفاق على نفس الكمية من السلع والمواد نتيجة ارتفاع الاسعار عالمياً ولا سيما منها أسعار النفط والحبوب والمواد الأولية. وستبدأ هذه المشكلة بالظهور أكثر في الأيام القادمة نتيجة نفاد مخزون السلع عند التجار، والاضطرار إلى الاستيراد على الاسعار الجديدة”.
الارتفاع في النفقات التشغيلية لا يقابله إنتاج فعلي. والإيرادات في أدنى مستوياتها على الإطلاق. فالدولة بحسب الخبير الاقتصادي د. وليد مروش “مفلسة”. والأموال التي تعطى “جريمة، وليست مساعدة”، برأيه. “فالاستمرار بطباعة الليرات لتغطية النفقات في ظل الانهيار الحاصل بالعملة الوطنية يفاقم المشاكل ولا يحلها. ويزيد من مأساة المواطنين الذين تدعي السلطة مساعدتهم. وهذه الزيادات سترتد بشكل عنيف على القيمة الشرائية وتؤدي إلى موجة من ارتفاع الاسعار والتضخم. مرّوش يتوقع أن تفوق تداعيات هذه الزيادة النتائج السلبية التي أعقبت سلسلة الرتب والرواتب في العام 2017. خصوصا ان الكتلة النقدية بالليرة قد زادت 8 مرات منذ نهاية العام 2019 وهي تهدد بنتائج كارثية على المواطنين وقدرتهم الشرائية”.
إذا كان الاتفاق على الاصلاحات الكبيرة والجوهرية متعثراً لغياب التوافق وعدم تلبيته مصالح الافرقاء السياسيين، فأضعف الإيمان يقتضي الإصلاح النقدي. فلجم الانهيار يتطلب إجراءات جدية وعملية للجم سعر الصرف وإلا فان كل الخطوات ستكون كـ”صب الماء على البلاط”.