للمرّة السابعة منذ توقيع اتفاق الطائف عام 1989، تقدّم رئيس مجلس النواب نبيه برّي، قبل أيام قليلة، بطلب ترشيحه للانتخابات النيابيّة، في خطوةٍ أثارت “ضجّة متوقّعة” في بعض الأوساط الشعبيّة.
حتماً، كان تقدّم بري باتجاه الانتخابات معروفاً في وقتٍ سابق، في حين أن هناك جهاتٍ سياسية عديدة تتمنى “خروج برّي” من النيابة بأسرع وقت ممكن، باعتبار أنه الشّخص الأول الذي يُمسك بزمام الأمور في البلاد، ويقطع الطريق أمامها لتنفيذ مشاريعها.
في الواقع، أبدى الكثيرون امتعاضاً غير مُعلن من دخول برّي المعترك الانتخابيّ من جديد، إذ جرى تفسيره بأنه تكريسٌ لنفوذ السلطة الحاليّة 4 سنوات إضافيّة، في وقتٍ تنشدُ “القوى التغييرية” ضخّ دماء جديدة في رئاسة مجلس النواب. وفي ظلّ ذلك، يُبرز السؤال الأساسي: ما هي الأمور التي يؤثر عليها ترشح بري للانتخابات النيابية؟
بالنسبة لمحور “الممانعة”، يعتبرُ وجود برّي ضمانة أولى له، خصوصاً أنه عبر الأخير يُمكن تعزيز قوّة المحور من جهة، ومواجهة المحور الآخر ومشاريعه من جهة أخرى. فاليوم، ولاعتباراتٍ عديدة، تحتاجُ جبهة “حزب الله” إلى داعمٍ أساسيّ لها في الداخل وسط المعركة التي تُخاض ضدها من الخارج، وهو الشعار الذي يكثف مسؤولو الحزب رفعه خلال الفترة الأخيرة ضمن خطاباتهم التي تتخذ منحى انتخابياً واضحاً. وفي ما خصّ هذا الأمر، يسعى بري بشكل كبير مع حليفه “حزب الله” لخوض المعركة الانتخابية بشكل كبير.. فوجود برّي “حاصل انتخابي” بحد ذاته، في حين أن انضمامه إلى التحالف العريض للثنائي الشيعي سيكرّس لهذه الجبهة وصول 27 نائباً من أصل 27 إلى الندوة البرلمانية، وقطع الطريق أمام أي خرقٍ لمرشح آخر من الطائفة.
من وجهة نظر حلفاء برّي، فإنّه قد يكونُ المحرّك الأساس لحفظ التوازنات، فلا أحد يمكنه الاعتراض على ذلك وما من جهة سياسيّة يمكنها نسف تلك التوازنات التي ترسّخ وجودها. ولهذا، يلجأ الجميع لإبقاء برّي في الواجهة، إذ يلعب دور “المايسترو” في إدارة التوازنات السياسية، ومن خلال دوره يقدّم الضمانات للأطراف السياسيّة المختلفة. فعلى سبيل المثال، لا يمكن أبداً تجاهل التحالف العميق بين بري ورئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط. فالأخير، يلجأ دائماً إلى عين التينة للتعاون معها وحفظ الوجود، في حين أنّ برّي يتوافق مع جنبلاط على إدارة المعارك المختلفة، على أن تصبّ نتيجتها في حمايةِ النفوذ السياسيّ.
على أساس تلك القاعدة، يعمل برّي مع جنبلاط، وإن كان الطرفان سيفترقا قليلاً في الانتخابات المقبلة ضمن دوائر عديدة. ولكن ما لا يمكن إنكاره هو أنّ جنبلاط يتمسّك ببري رئيساً لمجلس النواب أكثر من السابق، فهو لا يجد بديلاً حالياً عن بري ولا يمكنه إقصاء حليفه القديم من الحلبة السياسيّة مهما كلّف الأمر، لأن اهتزاز التوازنات يعني انهياراً للنظام اللبناني برمّته ودخولاً في نفق جديد من المجهول. ولهذا، جاء ترشّح بري بمثابة “إراحة لجنبلاط” أقله خلال السنوات الـ4 المقبلة، وهو أمرٌ يمكن أن يساهم في إعادة ترميمِ ما تهدّم من ثقة سياسيّة ووجوديّة.
وسط كل ذلك، فإنّ برّي كان يعتبرُ صمام أمانٍ للرئيس سعد الحريري. فقبل تعليق الأخير عمله السياسي، كان بري يقدم له كل الضمانات، وكلمة “قدّمنا للحريري لبن العصفور” في أواخر العام 2019، كانت كفيلة باقتناع برّي بضرورة بقاء الحريري في العمل السياسي. وأكثر من ذلك، كان برّي متمسكاً بنجل رفيق الحريري أكثر من غيره، حتى وصلت الأمور ببري في فترة من الفترات بعد ثورة 17 تشرين الأول عام 2019 للقول: “وصلو للحريري انو غصب عنو بدو يعمل رئيس حكومة”. وهنا، وبدون أي منازع، يعتبرُ وجود بري أرضية أساسية لثبات الحريري في السابق، وفي حال قرر الأخير العودة إلى العمل السياسي بعد الانتخابات، فإنه سيرى برّي بانتظاره وسيعمدُ مجدداً لتكريس الدعم له في السياسة.
أما الأمر الأهم، فهو أنّ وجود برّي سيكون بمثابة عائق في طريق رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل إلى قصر بعبدا، بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون في تشرين الأول المقبل. فرئيس مجلس النواب الذي يعتبرُ من “خصوم العهد” سيكون أوّل المقاومين لباسيل في حال قرر الأخير الترشّح للرئاسة. فالحربُ السياسيّة بين الطرفين كبيرة، حتى وإن كان هناك تقاطعٌ وتلاقٍ خلال الانتخابات. بالنسبة لبرّي، فإنّ دخول باسيل إلى القصر الجمهوري سيكون امتداداً لعون، أي استكمالاً لنهج الأخير السياسي، وهو الذي لا يروق لبرّي.
مع هذا، فإن السلطة التي سيمسك بري بها ستكونُ بمثابة “حائط صدّ” في وجه ترشّح رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع للرئاسة. فرئيس حركة “امل” لن يقبل بالأخير رئيساً مهما كانت الأثمان، في حين أنه لن يُسلّف جعجع فرصة الرئاسة ويضيعها على الحليف الأقرب رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية. كذلك، لن يتجه بري نحو استعداء “حزب الله” من أجل جعجع، في حين أنه لن يقبل بالأخير كونه “الخصم الأول” لمحور الممانعة في لبنان.
في الخلاصة، يعتبرُ وجود برّي مهماً لمختلف الأطراف السياسية الأساسية، وهي ستتجه نحو انتخابه مجدداً لرئاسة مجلس النواب خلال أيار 2022، بغض النظر عن النتائج والخروقات.