عمد الرئيس فؤاد السنيورة في كتابه «الدين العام اللبناني: التراكم والتأثيرات السلبية»، إلى شرح وتفصيل العوامل والأسباب التي أوصلت الأوضاع العامة في لبنان إلى هذا المستوى من الإنهيار المأساوي في مختلف الجوانب، الوطنية والسياسية والأمنية، وكذلك الإقتصادية والمالية والنقدية والإدارية.
ويسلط السنيورة الضوء على حقيقتين، الأولى: أن لكل مشكلة عصفت بلبنان كلفة وإنعكاسات وتداعيات سلبية على الأوضاع الإقتصادية والمالية والنقدية في لبنان، وعلى الإستقرار بأشكاله كافة. من التوتر السياسي والسياسات الخاطئة والحروب الداخلية والخارجية والإجتياحات الإسرائيلية، إلى الإستعصاء المستمر على الإصلاح، إلى الإحتقان والتشنج في الخطاب السياسي، والإنحسار المتزايد في دور وحضور الدولة اللبنانية، إلى الإختلال في التوازنات الداخلية، والإنحراف والإخلال بتوازن السياسة الخارجية، إلى توريط لبنان في الصراعات والتجاذبات والمحاور الإقليمية والدولية.
الحقيقة الثانية تتعلق يالإغفال المزمن لأهمية وكلفة عامل الوقت الذي إتخذ اشكالاً
متعددة على مدى العقود القليلة الماضية، مما حمّل الإقتصاد الوطني والمالية العامة للبنان خسارات هائلة، وتسبّب بتضييع وإهدار خطير للفرص التي كان بإمكان لبنان أن يستفيد منها.
تنشر «اللــــواء» هذا الفصل «عين على الماضي لإستخلاص العبر وعين على المستقبل لشحذ الهمم» الذي يُلخص فيه الرئيس السنيورة رؤيته لأسباب الانهيارات وسبل الإصلاحات.
إن نظرة هادئة ومتبصرة ومتجردة إلى كل ما جرى ولا يزال يجري في لبنان، تأخذ المتفخص الموضوعي إلى الإقرار بأنه كان على جميع الفرقاء المعنيين في المؤسسات الدستورية اللبنانية المبادرة منذ زمن طويل إلى العمل على وقف حالة الانكار التي أصبحت مستعصية لديهم، وأيضا إدراك الاختلال المتعاظم الذي أصبح يعاني منه لبنان في توازناته الداخلية وتوازنات سياسته الخارجية. كذلك المبادرة وبشكل ملتزم ومثابر لمعالجة الخلل المتفاقم في إداراته العامة، وفي الاقتصاد الوطني وفي المالية العامة، ولاسيما في ضوء استشراء الممارسات الإنفاقية الإرضائية غير الصحيحة وغير العادلة، والمتفلتة من أية روادع وأي اعتبار وطني أو أخلاقي. كذلك المبادرة الجريئة لمحاربة الهدر والفساد والإفساد السياسي ولوضع حد نهائي للممارسات الزبائنية. ويكون ذلك باعتماد وتنفيذ السياسات والإجراءات الصحيحة والأساليب الإصلاحية المؤسساتية في إعادة الاعتبار للكفاءة والجدارة في إيلاء المناصب العامة إلى أكفائها، وبالتالي محاسبتهم على أساس الأداء. وأيضا من خلال وضع الخطط والبرامج العملية لوقف الانهيارات الحاصلة في مستوى ونوعية عيش اللبنانيين. كذلك التنبه لما آلت إليه .
حال المؤسسات الخاصة في لبنان من انهيارات خطيرة في مختلف القطاعات المصرفية والسياحية والاستشفائية والتعليمية والإنتاجية على أنواعها، من أجل أن يصار إلى وقف الانهيار الشامل واستعادة النهوض الوطني والاقتصادي والاجتماعي وإعادة الاعتبار والاحترام للكرامة الإنسانية. في المختصر، لقد أدت تلك الانهيارات وما ترتب عليها من انهيار في ثقة اللبنانيين بالدولة اللبنانية والحكومات ورئاسة الجمهورية والمنظومة السياسية اللبنانية إلى حالات الغضب والنقمة التي استفحلت في صدور اللبنانيين. وهي التي تفاعلت مع حالات اللايقين، وفقدانهم الثقة والامل في المستقبل، وأيضا الثقة في البوصلة الوطنية التي تمكنهم وتمكن المسؤولين اللبنانيين من تصويب الجهود المبذولة لتحقيق المعالجات الصحيحة للمشكلات العميقة والخطيرة التي أصبح اللبنانيون في خضمها. إلا أنه – وياللأسف – وبدلاً عن استيلاد حيوية وطنية وإصلاحية جديدة، كان يبرز استمرار التمادي في عدم المبادرة إلى سلوك المنحى الذي يستنقذ إدارات ومؤسسات وأجهزة الدولة اللبنانية والقضاء اللبناني من حال الاختطاف الذي أصبحت عليه الدولة؛ وهو المنحى الانحداري الذي أصبحت فيه وكانت له عواقبه الوخيمة في علاقاتها مع كافة الفرقاء – السياسيين في الوطن. لقد وجهت في شهر نيسان/ أبريل من العام 2019 رسالة إلى فخامة رئيس الجمهورية، وإلى ثلاثة عشر مسؤولاً حاليا وسابقا في الدولة اللبنانية (70)، حيث قدمت لتلك الرسالة بعبارة تقول: «تتبنى الدولة برامج الإصلاح، التي هي بحاجة ماسة اليها، وتبادر إلى تنفيذها عندما تكون قادرة عليها، وليس عندما تصبح مجبرة على تنفيذها. عندها تكون العملية الإصلاحية قد أصبحت أكثر تعقيدا وأكثر الحاخا، كما يصبح تنفيذها أكبر كلفة وأكثر وجعا وإيلاما وأكثر عرضة للأخطاء، وربما قد لا تعود العملية الإصلاحية كافية لتأدية الغرض الذي تتوخاه الدولة من الإصلاح . وحذرت في نصها من الانعكاسات الخطيرة التي سوف تقع على عاتق اللبنانيين في حال استمر الإنكار والتقاعس والاستعصاء، كذلك ذكرت بالمواد الخمسين التي كنت قد بادرت إلى وضعها في مشروع موازنة العام 2005 وغيرها من المواد الإصلاحية، والتي كنت قد أعلنت عنها بتاريخ 2004/09/28. وهو الأمر الذي لم يلق أي تجاوب على الاطلاق من أولئك المسؤولين. فقد استمر الإنكار واستمر الاستعصاء. (71) في والحقيقة التي اثبتها مسلسل الاحداث مرة جديدة منذ انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019 أن المعالجات والإصلاحات لا تكتمل ولا يكون النجاح من نصيبها إذا لم تتضافر معها عودة قوية وثابتة إلى ممارسة احترام حقيقي وصارم لوثيقة الوفاق الوطني الطائف وللدستور اللبناني الذي انبثق عنها، والثبات على احترام سلطة القانون والنظام، والإصرار على استعادة الدور الحقيقي والكامل للدولة اللبنانية ولسلطتها الحصرية على جميع مرافقها وعلى كامل الأراضي اللبنانية، وأيضا التشديد على استقلالية السلطة القضائية وترفعها ونزاهتها، وكذلك
على ضرورة التنبه إلى أهمية احترام مقتضيات الالتزام بالشرعيتين العربية والدولية، هذا فضلاً عن وجوب العودة إلى اعتماد الأصول الصحيحة في إدارة الشأن العام، بما في ذلك العودة إلى احترام معايير الكفاءة والجدارة والاستحقاق في تولي الوظائف والمناصب في إدارات الدولة اللبنانية ومؤسساتها وأجهزتها على قواعد شفافة وتنافسية بعيدا عن الاستتباع. كذلك في إخضاع جميع المسؤولين على اختلاف درجاتهم ومواقعهم للمساءلة والمحاسبة السياسية والإدارية المؤسساتية، وعلى أن يواكب ذلك التشديد على أهمية ترشيق الدولة وانتظام عملها وعلى احترام قواعد الحوكمة والحكم الرشيد، وهذه كلها من العوامل الأساسية والضرورية لاستعادة الدولة اللبنانية دورها واحترامها وهيبتها، ولاستعادة ثقة اللبنانيين وثقة المجتمعين العربي والدولي بلبنان. المسألة التي طغت على كثير مما عداها، ولاسيما في السنوات القليلة الماضية خلال العقد الثاني من هذا القرن لا تقتصر على عدم تمكن السلطتين التنفيذية والتشريعية من القيام بدورهما في تبني السياسات والإجراءات الإصلاحية الصحيحة، ولكن في اللجوء عوضا عن ذلك إلى الأدوات النقدية حصريا عبر رفع معدلات الفائدة على الليرة اللبنانية وعلى الدولار الأميركي في السوق اللبنانية بغية المحافظة على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية في مقابل الدولار الأميركي لمعالجة جملة المشكلات المتكاثرة من كل نوع، ومن كل حدب وصوب، وهذا ما أدى إلى ذلك الفشل الكبير الذي أصبح لبنان في أتونه للأسف، لقد جرى اعتماد إجراءات السياسة النقدية لتحقيق الاستقرار النقدي، عبر اعتماد المعدلات المرتفعة للفوائد على الليرة اللبنانية لمعالجة معظم تلك المشكلات المتكاثرة على أكثر من صعيد سياسي وإداري ومالي ونقدي؛ وهو ما أسهم بدوره، وإلى حد كبير، في تنامي الدين العام بسبب التكلفة المرتفعة لخدمة هذا الدين؛ وهي المعالجة التي ما كان ينبغي لها أن تتم على النحو الذي تفت، والتي كان لها بالتالي كلفتها الباهظة في حينه ومستقبلا. لقد بات واضحا أيضا، أنه كان من الواجب اعتماد سياسات تعزز الـتـوازن الداخلي والخارجي، وبذلك تستعاد ثقة المواطنين بالدولة اللبنانية وبمرجعيتها، وكذلك ثقة الأشقاء والأصدقاء بها، هذا إلى جانب تبني وتنفيذ جملة من السياسات الإدارية والمالية الفعالة في العملية الإصلاحية، بما يؤمن أحزمة أمان متنوعة وفعالة تكون صالحة لمعالجة أصل مشكلة تنامي الدين العام المتمثل أساسا في اختلال عميق في السياسات الداخلية والخارجية، وكذلك في استمرار عجز الموازنة والخزينة، كما في مؤسسة كهرباء لبنان. تلك العجوز المتجمعة والمتفاقمة هي التي أطاحت بأسس الحفاظ على الامن الاجتماعي والمعيشي للبنانيين من المفيد هنا أن أقتبس مقطعا من مقالة كتبها الدكتور غسان العياش النائب السابق لحاكم مصرف لبنان بتاريخ 2019/11/27 في صحيفة النهار « إن المسؤول عن الوضع الذي وصلنا إليه هو عدم اكتراث الدولة بتراكم عجوزات المالية العامة سنة بعد سنة، وفقدانها الإرادة الحازمة لإصلاح ماليتها بالطرق الشرعية المعروفة بدلا من ذلك اعتمدت على مصرف لبنان وسياسته النقدية لتأجيل التصدي للمشكلة، فحملت المصرف أعباء تفوق قدراته. في السنوات الأربع الأخيرة، ارتفعت التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية للمصارف اللبنانية بأكثر من خمسين بالمئة، وسجل صافي احتياطي النقد الأجنبي رقما سلبنا قياسيا حتى مع احتساب الذهب. هذا هو السبب الرئيسي لفقدان السيولة من النظام المصرفي الذي بات عاجزا عن تلبية الحاجات التمويلية للاقتصاد، بل عن تسديد الودائع للمودعين بالعملات الأجنبية، كما هو واقع الحال – (انتهى الاغتياي . لمعالجة تلك المشكلات الوطنية والسياسية والإدارية والمالية والنقدية المتفاقمة، فإن الأمور لاتزال تقتضي في المبدأ وفي الأساس اعتماد المعالجات الوطنية التي تهد في تصويب البوصلتين الداخلية والخارجية، من أجل استعادة التوازن الوطني الداخلي والتوازن في السياسة الخارجية بعيدا عن التورط في الصراعات والمحاور الإقليمية والدولية، كذلك في اعتماد سياسة إدارية ومالية حازمة ورشيدة، بما يؤدي بحجمه إلى استعادة ثقة اللبنانتين من جهة أولى، وثقة المجتمعين العربي والدولي من جهة ثانية، بالاقتصاد اللبناني ومستقبله والاستقرار النقدي فيه، وليس فقط عبر الاكتفاء باعتماد الأدوات النقدية على شاكلة الهندسات المالية أو باعتماد المعالجات السطحية التي تتطرق لظواهر المشكلات وليس المعالجة أسبابها الحقيقية، وبالتالي التعامي وتضيع الحرص والامتناع عن القيام بالتصدي الجوهر المشكلات، وعدم تطبيق الإصلاحات الصحيحة بالوقت والمكان والقدر اللازم والصحيح (72) إن هذا الانهيار الكبير الذي يشهده لبنان، أصبح يستدعي من أولئك المسؤولين ضرورة العودة مجددا إلى الطريق الواسعة بديلاً عن استمرار التومان في الأزقة والزواريب السياسية الضيقة، أو الالتهاء بمعالجة مظاهر المشكلات لا النفاذ إلى جوهرها بغرض العمل على معالجتها وحلها بشكل صحيح ومستدام، أي بالعودة إلى الالتزام بالدستور، وتاليا إلى أن يتحمل كل واحد من أولئك المسؤولين عن تلك المؤسسات الدستورية مسؤولياته الدستورية الصحيحة لجهة تحويل الأقوال إلى ممارسة فعلية وملتزمة، تجسد ما جاء في مقدمة الدستور اللبناني لجهة الحرص الحقيقي على الفصل بين السلطات الدستورية من جهة أولى، وعلى توازنها وتعاونها من جهة ثانية. ذلك ما يعني العودة إلى الالتزام بالأصول الصحيحة للحكم، عبر تصويب البوصلة باتجاه مراعاة واحترام المصلحة الوطنية والعمل على استعادة الدولة لسلطتها وهيبتها ولتعزيز استقلالية القضاء لما فيه مصلحة مستدامة للوطن والمواطنين. المخاطر الكبرى التي أصبح لبنان في خضمها، تتطلب من أولئك المسؤولين عدم الاكتفاء فقط بتكرار التنبيه إلى مآلات الاستمرار في عدم بسط سلطة الدولة منفردة على جميع مرافقها وأراضيها، ولكن أيضا التنبه والتنبيه إلى محاذير الاستمرار في التقاعس وعدم المبادرة إلى القيام بما تتطلبه عملية تنفيذ تلك المهمة الشاقة، بما في ذلك التصدي الحقيقي للفساد المستشري في البلاد، ولاسيما الفساد السياسي الذي يتم على أساسه تقاسم جسم الدولة وإداراتها ومؤسساتها العامة، وبالتالي تقاسم مغائمها من دون المبادرة إلى اعتماد السياسات والإجراءات التي تحقق التغيير الإصلاحي المنشود. هذا ما يؤكد مرة جديدة أن كل ما يتعلق بإصلاح اقتصادي أو مالي أو إداري أو اجتماعي أو معيشي لا يمكن تحقيقه طالما لم تتوطن فكرة الدولة العادلة والقادرة، وفكرة المواطنة بشكل جازم في وجدان
بعض المجموعات السياسية اللبنانية، وطالما استمرت أحلام التسلط والسيطرة والإصرار لدى البعض على اعتماد مبدأ التغيير في ميزان القوى أسلوبا في الحكم، وهو الأسلوب الذي يؤدي لا محالة إلى استمرار وتفشي حالات اللااستقرار وبالتالي إلى الانهيار؛ وذلك بديلا عن اعتماد مبدأ قوة التوازن بين مختلف فرقاء الوطن وعلى قاعدة احترام فكرة العيش المشترك، وأهمية الاحتكام للدستور بدلا من محاولات التحكم به، أو محاولات تطويقه عبر تفسيرات وممارسات ليس لها علاقة بالدستور. من الواضح أن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه من دون توفر إرادة وطنية حازمة ومثابرة ومؤمنة بالإصلاح نهجا وطريقا وأسلوبا في الحكم. إنه من المفترض أن تتولى الحكومة ومجلس النواب، وكل بدوره في نطاق صلاحياته، تحمل مسؤولياتهما في استعادة الثقة التي انهارت بين الدولة بجميع مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وبين المواطنين، وكذلك بين المواطنين والمنظومة السياسية هذه الانهيارات الكبرى أصبح يفاقمها انحسار الحيادية في تعامل الدولة وإداراتها ومؤسساتها وأجهزتها مع الفرقاء السياستين بالعدالة ذاتها، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الطائفية أو المذهبية الآن، وها قد وصلنا إلى ما وصلنا إليه، فإن الأمور أصبحت تقتضي اتخاذ القرار الحاسم والجازم بالخروج من دوامة المزايدات السياسية والشعبوية المقيتة، ومن مواصلة التباري في تسجيل النقاط على الخصوم السياسيين إذ أصبح لزاما المسارعة إلى مصارحة المواطنين بأن على الجميع أن يتعاون وأن يسهم حسب طاقته واقتداره وصلاحياته في تخليص الدولة وتخليص الاقتصاد الوطني، وتخليص المواطنين من مغبة الانهيار والتدمير الحاصل، وبعيدا عن لحظة الارتطام الكبير التي لم يعد لبنان بعيدا عنها؛ إذ لم يعد يجدي الإنكار أو التأجيل فلقد أصبحت الحاجة ماسة إلى إعادة السوية إلى الدولة اللبنانية وإقدارها على ممارسة سلطتها الكاملة والحصرية على قرارها الحر وعلى أرضها ومرافقها، وإعادة السوية للتوازنات الداخلية الدقيقة، والسوية للسياسة الخارجية في تحييد لبنان عن صراعات المحاور الإقليمية والدولية. كذلك في إعادة السوية للقضاء اللبناني وحياديته واستقلاله، وكذلك للجسم القضائي، كما في إعادة السوية للاقتصاد اللبناني وإلى السياستين المالية والنقدية، بحيث تتوجب المسارعة إلى إجراء الإصلاحات التي طال الحديث عنها وانعدم الإنجاز فيها، كذلك ضرورة المسارعة إلى فتح حوار جدي وسريع مع صندوق النقد الدولي، مع ما يقتضيه ذلك من اعتماد برنامج واضح وشجاع من الإصلاحات التي تسهم في البدء باستعادة ثقة اللبنانيين وثقة المجتمعين العربي والدولي بالاقتصاد اللبناني. ذلك يكون عبر العودة إلى سلوك الطريق الصحيح لإجراء الإصلاحات الاقتصادية والمالية والنقدية والإدارية. ويبدأ ذلك في التقدم على مسارات استعادة الثقة بالاقتصاد الوطني وبالمالية العامة وبالجهاز المصرفي وبالدولة اللبنانية؛ وهو ما يؤدي إلى البدء بالتقدم على مسار الاستقرار في سعر صرف الليرة اللبنانية، والتقدم على مسار الاستقرار والتحسن في الأوضاع الاجتماعية والمعيشية المتردية لدى اللبنانيين حتما إن هذا الأمر لا بد أن يتضمن جهوذا حازمة وشجاعة لجهة ضبط العجز في مؤسسة كهرباء لبنان التي تسببت ولاتزال تتسبب باتساع ذلك الخرق الكبير في المالية العامة.
وفي المقابل، العمل على تحقيق زيادة متدرجة في إيرادات الخزينة اللبنانية عبر تعزيز انضباطية الجباية وانتقاء الأدوات المالية الصحيحة لزيادة إيرادات الدولة دون التفريط بهدف الحرص على تعزيز النمو والتنمية المناطقية. ويندرج في ذلك طبعا وجوب أن تتضافر جميع الجهود لحث السياسة المالية على القيام بدورها، بالتعاون مع المصرف المركزي الذي يتولى تنفيذ السياسة النقدية، وحضهما على أن يمارس كل دوره الذي منحه إياه القانون باستقلالية، وإنما بالتعاون والتنسيق مع الآخر. كذلك في العمل الجاد من أجل استعادة الثقة بالقطاع الخاص، وتعزيز مشاركته في تحقيق النهوض الاقتصادي المنشود بما يعني العودة إلى استعادة النسب المعتبرة من النمو الاقتصادي وتعزيز جهود التنمية المناطقية لطالما كنت أقول وما زلت أعتقد أنه لا حدود لتضحية أي شعب في مجال تحقيق الإصلاح والنهوض. ولكن ذلك مشروط بتيقن المواطنين اللبنانيين من سلامة وصحة الوجهة التي يفترض بهم التقدم نحوها، وبأن يطمئنوا إلى أن الأعباء التي ستفرض عليهم سوف يجري توزيعها على مختلف شرائحهم بعدالة وإنصاف دون تفريط أو إفراط أو هدر أو فساد، وان لدى المسؤولين في الدولة خطة واضحة، ومبادرات رؤيوية متبصرة وحازمة، وبرنامج عمل يجري الالتزام بتنفيذه، ويكون كفيلاً بإيصال المواطنين إلى بر الأمان، واستعادة النهوض والسوية للاقتصاد اللبناني. الحقيقة أن في هذا كله يكمن جوهر حل هذه المعضلات الكبرى التي يعيش لبنان في خضمها، لتأمين الخروج الآمن والسلس من هذه المأزق والانهيارات الخطيرة والمرعبة على أكثر من صعيد.
أعتقد جازما، وبالرغم من دقة الأوضاع الاقتصادية والمالية التي أصبح لبنان في خضمها، أن الوقت لم يفت بعد، وإن كانت جميع المؤشرات تؤذن بقرب نفاده نهائيا. لذا، فإن هناك دورا وطنيا ومسؤولاً في لبنان يبحث عمن يحمل لواءه من رجال الدولة. وهو باختصار الدور المبادر إلى التقدم الثابت والملتزم في المسارات الصحيحة التي تعالج انحسار ثقة الداخل والخارج بالدولة اللبنانية، بالعودة إلى الأصول والدستور يحدوني قدر معتبر من الثقة بأنه في حال جرى الاضطلاع بذلك الدور الوطني والمسؤول، بدءا بالرئاسات الثلاث، بما يعني التشديد على ممارسة كل منها فعلا لا قولاً الالتزام بأن تكون النموذج الصحيح لجهة احترام مندرجات وثيقة الوفاق الوطني في الطائف ولأحكام الدستور والقانون والنظام وسلطة الدولة اللبنانية على قرارها الحز وعلى جميع مرافقها وأراضيها، وأيضا الالتزام بالمبادئ التي نص عليها الدستور اللبناني، ولاسيما لجهة الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها، وكذلك في إعادة الاعتبار للكفاءة والجدارة في تسليم المسؤوليات إلى أكفائها، وفي التشديد على استقلالية وحيادية القضاء اللبناني في الجسم القضائي، واحترام قواعد المساءلة والمحاسبة بطريقة مؤسساتية. أقول: يحدوني قدر معتبر من الثقة بأنه لايزال هناك أمل في الخلاص والتعافي إذا صدقت النيات وتعالى أولئك المسؤولون عن صغائرهم وضغائنهم وحساسياتهم ومطامعهم الصغيرة، وإن كان ما ظهر منهم حتى الآن لا يبشر بهذا الخير المنتظر. إن التزام تلك القيم والقواعد التي قام عليها لبنان، كما والعودة إلى السير على مساراتها بكل جد وجذية، واعتماد البرامج الإصلاحية الضرورية على الصعد السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية والإدارية، والتناغم مع ما يتم اعتماده بالتشاور والتنسيق مع صندوق النقد الدولي روسة واحدة، هو السبيل الوحيد لاستعادة الثقة بالدولة اللبنانية ومحاضر ومستقبل الاقتصاد اللبناني، وبناء على ذلك، فإن الأسواق بحث ذاتها يمكن أن تلتقط تلك الإشارات الإيجابية والملتزمة بشأن ذلك التحول المشاير، وأن تستجيب عندها لتلك الإشارات الإيجابية السليمة. ذلك ما سيدة باستعادة الثقة بالمستقبل، ومن ثم البدء بالانخفاض التدريجي لسعر صرف الدولار الأميركي وعودته إلى الاستقرار، والانخفاض التدريجي عدلات القوات على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية وبالدولار الأميركي، والبدء باستعادة الثقة بالجهاز المصرفي اللبناني. مدراء أقول إن التقدم المستمر والثابت نحو استعادة الثقة بين المومنير ودولتهم، وبين الدولة والمجتمعين العربي والدولي، كفيل توضيح المسيرة المستقبلية للوطن اللبناني ولاقتصاده الوطني ولماليته العامة، وبالتالي بتمهيد الطريق أمام البدء باستعادة الثقة، وبعودة ات المالية الخارجية نحو لبنان إلى سابق زخمها وأهميتها بطريقة شريحية وحسبما تسمح به ظروف حركة الأسواق ومقتضياتها. لا بد لي هنا أن استشهد بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي وما تعصى على قوم منال إذا الإقـدام كـان لـهـم ركـابـا.
المصدر : اللواء