أمّا اليوم فقد إنعكست الآية، وحلّت الـ “لا أحد” مكان الـ “أنا”، ولو بطريقة مختلفة وفي غير ظروف وغير معطيات.
بالأمس القريب أقدم “التيار الوطني الحر” على إجراء إستفتاء داخلي حول مرشحيه المحتملين في مختلف المناطق فجاءت النتيجة مفاجئة للجميع، إذ إختارت نسبة كبيرة من “العونيين” “لا أحد” ليتقدّم هذا الخيار على غيره من الأسماء المتداولة، وهي نسبة تُعتبر مقلقة بالنسبة إلى أكبر تيار إستطاع أن يجمع حوله في وقت من الأوقات أكبر كتلة نيابية في مجلس النواب، وذلك قبل “أن ينفخت الدّف ويتفرّق العشّاق”.
وما ينطبق على “التيار الوطني” ينسحب على كل الأحزاب اللبنانية، التي يتألف منها مجلس النواب بنسبة تفوق الـ 90 في المئة. فإذا تجرّأ أحد من هذه الأحزاب وأجرى إستفتاء داخليًا حول أسماء مرشحيه، كما فعل “التيار البرتقالي”، فإن نسبة الـ “لا أحد” ستكون مزلزلة بكل ما للكلمة من معنىً. وهذا دليل آخر على أن عدوى “كلن يعني كلن” قد إنتقلت إلى داخل الأحزاب، التي باتت في حاجة إلى تغيير جذري في أدائها ومناهجها وتوجهاتها، خصوصًا أن النسبة الكبيرة من الشباب المنخرطين في صفوف تلك الأحزاب لم تعد تغرّها الخطابات الممجوجة أو تستهويها، لأسباب عدّة، لأن تطلعاتها قد أصبحت أكبر من حجم هذه الأحزاب بمفهومها التقليدي.
فلو تمّ تعميم تجربة “الإستفتاء” خارج النطاق الحزبي فإن رقعة الـ “لا أحد” ستتسع حتمًا، لكن الترجمة العملية لهذه النتيجة لن تصل بالتأكيد إلى صندوقة الإقتراع، وسيعود القديم إلى قدمه، وسيكون برلمان الـ 2022 شبيهًا إلى حدّ كبير ببرلمان 2018، مع تغيير في بعض الوجوه والأسماء، مع إحتمال كبير لخرق له دلالات مهمّة للمجتمع المدني كمقدّمة لازمة وضرورية للبدء بمرحلة التغيير من مكان ما. وهذا ما تؤكّده المعطيات والوقائع والمؤشرات على الأرض، مع ما تشهده الساحة السياسية من تبدّلات، ولو خجولة، كمرحلة تمهيدية لا بدّ منها.
وهذه الـ “لا أحد”، التي هزّت قيادة “التيار الوطني الحر”، والتي قد تهزّ ايضًا سائر الأحزاب، جاءت نتيجة تراكمات كثيرة، ومن بينها نورد الآتي:
أولًا، أن الشعارات المستهلكة لم تعد تقنع الكثيرين، الذين باتوا يرفضون مع غيرهم من المنضوين إلى الأحزاب أو التيارات الأخرى، الإنصياع الأعمى لما تقرّره القيادة الحزبية، إذ أصبح لكل فرد من هذه الأحزاب رأي في كل شاردة وواردة، وبات يطالب بأن يكون مشاركًا في حسم الخيارات، التي كانت تُفرض عليه في السابق فرضًا، من دون أن يُفسح له في المجال أمام المناقشة أو إبداء الرأي.
ثانيًا، لم تعد تؤمن الفئة الشبابية كثيرًا بالطروحات المستهلكة للأحزاب والتيارات السياسية، التي باتت في حاجة إلى رؤية جديدة تأخذ في الإعتبار المتغيرّات والتحديثات والتحدّيات وفق أولويات ما يتطلع إليه الشباب اللبناني.
ثالثًا، من المسّلم به أن أداء الأحزاب والتيارات السياسية على مدى ردح من الزمن جاء مخيّبًا للآمال، وخاصة بالنسبة إلى فئة الشباب، الذين لديهم من الجرأة ما يكفي لكي يقولوا عن الأبيض إنه أبيض، وعن الأسود إنه أسود، من دون محاباة أو “تبييض طناجر”.
ما إستنتجته قيادة “التيار”، وهذا ما يُفترض أن تستنتجه سائر الأحزاب والتيارات، أن هذه الـ “لا أحد” قد تكون بداية لنهاية المفهوم الحزبي الضيّق. فهل من يقرأ ما بين السطور، وهل هناك من هو على إستعداد لتقبّل هذا الواقع الجديد، بغض النظر عن بعض الأحزاب القائمة على عقائد طائفية ومذهبية وغرائزية؟