لا يقطع الهدوء المريب على “جبهة” معالجة الخسائر في القطاع المصرفي، إلا “رشقات” متقطّعة من التصريحات التي تنذر بما “يطبخ” على نار خافتة. آخر هذه “الطلقات” كان ما فهم من تصريح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على أنه عملية إعادة الودائع المحولة إلى الدولار بعد ثورة 17 تشرين إلى عملتها الأساسية، أي الليرة. خطوة، قد تخفّض مطلوبات المصارف بالدولار بنسبة 26 في المئة بجرّة قلم، لكنها ستفاقم من معاناة المودعين.
الرئيس ميقاتي كشف في لقاء حواري مع مجلس نقابة المحررين أنه تم تحويل 28 مليار دولار من الليرة إلى الدولار بعد 17 تشرين الأول 2019. معلقاً، أنه “ليس من المقبول أن يطبّق على هؤلاء الإجراء ذاته الذي سيطبق على الودائع التي جمعها الناس بعرق السنين وتعبها”. بغض النظر عن انقسام الآراء بين مؤيد ومعارض، وإن كانت الودائع ستحول حكماً الى اليرة أو سيطبق عليها إجراء آخر، فإنه من المهم بحسب الخبراء أخذ ثلاثة أمور أساسية بالاعتبار، وهي: هل سيأخذ مثل هذا التدبير بمبدأ العدالة في توزيع الخسائر؟ على أي سعر صرف ستعاد الودائع إلى الليرة في حال تقرر ذلك، بمعنى آخر، ما هي نسبة “الهيركات” التي ستطبق عليها؟ وما انعكاس مثل هذه الخطوة على الوضع الاقتصادي وخطة التعافي؟
أخطر ما في هذه الخطة سيكون معاملة الودائع المحولة بعد الثورة على القاعدة نفسها أي “قشة لفة”. ففي الوقت الذي يوجد فيه ودائع بمليارات الليرات حولت إلى الدولار بعدما استفادت على مدار السنوات الماضية من الفوائد المرتفعة، هناك تعويضات لموظفين وودائع صغيرة حولت بعد 17 تشرين إلى الدولار نتيجة سياسة الترغيب والترهيب. وهناك ودائع بالدولار نتجت عن عمليات بيع بشيكات مسحوبة. وعليه فان العدل يقتضي الفصل بين الودائع ومعاملتها تبعاً للمعيار الذي يقول “من استفاد أكثر يدفع أولاً”، بحسب أحد الخبراء الذي فضل عدم الكشف عن اسمه قبل وضوح الصورة. هذا من ناحية، أمّا من ناحية ثانية فان “الوضع السياسي والنقدي الذي أعقب اندلاع الأزمة، هو الذي شجع على تحويل الودائع إلى الدولار وتجميدها على فترات طويلة نسبياً برضى المصارف والسلطة النقدية المتمثلة بالمصرف المركزي. فكيف من الممكن معاقبة المودعين من نفس السلطة التي سمحت لهم بالتحويل؟! فهذا الأمر يرقى إلى جرائم الحرب ويشبه فتح السجان الباب وتسهيل هروب المعتقلين لاطلاق النار عليهم من الخلف عشوائياً”.
المحامي أنطوان مرعب الذي يعتبر أنه كما لا يجوز منع التحويل من الليرة إلى الدولار، ما لم يكن هناك نص قانوني صريح، يسأل عن “السند القانوني الذي سيعتمد لارجاع الوديعة إلى عملتها الرئيسية. ولا سيما إن تم اعتماد نفس سعر الصرف الذي جرى التحويل على أساسه، أي 1515. فهل من الممكن أن توضع عملية التحويل في إطار التواطؤ بين المصرف والعميل؟
أمّا إذا أعيدت المبالغ على سعر صرف أعلى للدولار، ولنفرض مثلاً 8 آلاف ليرة، فهذا يعني بالمنطق خسارة المصرف والمودع على حد سواء، “اللهم إلا إذا كان “المركزي” هو الجهة الضالعة فيها، والمستعدة لتحمل الفرق. وهذه تكون خدمة “عسملية” للبنوك، بحسب مرعب. أما في ما خص المودع فان إرجاع الوديعة إلى الليرة يعني اقتطاع “هيركات بنسبة 72 في المئة. وهي نسبة على ما يبدو لن تميز بين كبار وصغار المودعين وستعامل الجميع بالطريقة نفسها.
بحسب مرعب فان “كل ما يجري اليوم على مختلف الأصعدة، ما هو إلا استكمال للنهج القائم من 17 تشرين على السرقة المنظمة. فالمصارف التي أخفت خسائرها من خلال تسديد جزء كبير من الودائع بأقل من قيمتها الحقيقية سابقاً، واعتماد ميزانيات غير حقيقية بتغطية من المركزي، ستنال ترفيعاً آخر مع مثل هذا القرار، إن كان قد قصد به الرئيس ميقاتي ما فُهم منه. مع العلم أن ما يكون قد قصده الرئيس ميقاتي أيضاً هو أن هذه الودائع قد جرى تحويلها إلى خارج البلاد”.
وعلى الرغم من الظلم الذي سيلحق بالمودعين تحديداً، يظهر أن لا شيء مستبعد. “فـمصرف لبنان الذي شجع البنوك على تجاوز القانون التجاري وارتكاب جرم جزائي في أوائل العام الماضي من خلال تقييم الدين على الدولة في ميزانياتها بنسبة 90 أو 100 في المئة من قيمته الاسمية، في الوقت الذي كانت تباع فيه سندات اليوروبوندز بـ 40 سنتاً للدولار… من الممكن أن يلجأ لأي وسيلة لحماية نفسه والمصارف”، بحسب مرعب. و”هو الأمر الذي لا يدفع للشك بان كل الارقام غير دقيقة، إنما أيضاً للاعتقاد بأن ليس هناك شيء ممكن ألّا تفعله المنظومة. خصوصاً في ظل انعدام الرقابة والمحاسبة”.
رقم التحويل الهائل من الليرة إلى الدولار، بغض النظر إن كان 28 مليار دولار أو أقل نتيجة مرور عامين، سيكون بحسب مصدر مصرفي من ضمن الخطة الكاملة لتوزيع الخسائر، ولم يتم التعامل معه إفرادياً. وهو سيخضع للمراجعة والتدقيق كما الحسابات التي استفادت من الفوائد الباهظة والمقدرة قيمتها بحسب تصريح رئيس الحكومة بـ47 مليار دولار فقط منذ العام 2014 ولغاية 2017. وفي الحالتين فان ترجمة التصريح الذي نقل عن الرئيس ميقاتي هو تحضير المودعين نفسياً للمرحلة المقبلة التي ستشهد أوسع عملية “ليلرة” للودائع من دون أن يحدد بعد على أي سعر صرف.
هذا التسريب “سيشكل ضغطاً كبيراً على الشيكات المصرفية banker check بمحاولة لتهريب ما تبقى من الودائع بالدولار المهددة بالليلرة”، بحسب الخبير في الأسواق المالية د. فادي خلف. ولا سيما ان السحوبات على سعر الصرف الجديد 8000 ليرة محكومة بسقف لا يمكن تخطيه، وبيع العقارات أصبح بالدولار النقدي. ومع ازدياد عرض الشيكات المصرفية ستنخفض قيمتها أكثر من دون أن نستبعد فقدانها لأكثر من 80 في المئة من قيمتها”، بحسب خلف. و”ذلك بعدما شهدت تحسناً ملحوظاً في الآونة الأخيرة بلغ 26 دولاراً لكل 100 دولار، مع رفع سقف السحوبات من حسابات الدولار إلى 8000 ليرة، والتراجع القليل في سعر صرف السوق الموازية، والاجراءات التي يحاول أن يأخذها المركزي لاقفال العام على سعر صرف أقل من 30 ألف ليرة”. يبقى هناك برأي خلف “سوق الأسهم الداخلية، على محدوديته، قد يكون مخبأ لهذه الودائع بانتظار تحسن في أسعار الأسهم أو عدم فقدانها قيمتها في أسوأ السيناريوات”.
التسريبات أو حتى الإشاعات في ما خص قطاع الأعمال تفعل فعل القرارات. وكأن رئيس الحكومة، الذي ميز بما نقل عنه بين الودائع المحولة إلى الدولار بعد 17 تشرين بقيمة 28 مليار دولار، والفوائد المدفوعة بقيمة 47 مليار دولار، يحضر الارضية والنفسية لتحويل الودائع إلى الليرة بشكل يعتاد فيه المودعون على الفكرة قبل أن تحصل بأشهر.