ما إن وصل سعر صرف الدولار الى 25 الف ليرة، وبدأ في تجاوز هذا الرقم وسط تكهنات بأنه اصبح بلا سقف، وسيواصل ارتفاعه الدراماتيكي، حتى سارع مصرف لبنان الى إصدار بيان، حمّل فيه التطبيقات الالكترونية (application) مسؤولية ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء، معتبراً أن السعر الذي بلغه الدولار ليس السعر الحقيقي لليرة.
اللافت في البيان، انه أورد المواقف والنقاط التالية:
اولا- اعتبر ان التطبيقات الموجودة مشبوهة، في اشارة الى وجود جهة او جهات تتلاعب بسعر الدولار عن سابق تصوّر وتصميم، لأهداف تجارية وسياسية.
ثانيا- اشار الى ان السعر الحقيقي للدولار هو ذلك المُسجّل على منصة صيرفة، والذي اصبح 20 الف ليرة ونيف للدولار، بما يدحض ادعاءات سابقة لهذا الطرف او ذاك، بأن سعر الدولار في السوق السوداء سعر وهمي. وبما يعني انه ليس صحيحا ان سعر الدولار هو اقل بكثير، كما اشار ذات مرة وزير الاقتصاد امين سلام.
ثالثا- في موازاة تأكيده ان السعر الحقيقي للدولار هو اكثر من 20 الف ليرة،(20.600) وليس 25 الفا، كان مصرف لبنان مستمرا بشراء الدولار من السوق السوداء عبر شركات تحويل الاموال، على سعر يفوق الـ 25 الف ليرة، على اعتبار انه يدفع للشركات ثمن الدولار كما هو في السوق السوداء، زائد 50 دولارا لكل عشرة آلاف دولار، كعمولة لهذه الشركات!
رابعا- حمّل المسؤولية لشركات عالمية سمّى منها «Google» و«Facebook» ووعد بملاحقتها قانونياً، على اعتبار ان التطبيقات موجودة في الخارج، ويعجز لبنان عن وقفها من الداخل، من دون تعاون الشركات العالمية المشغلّة.
خامسا- أطلق وعداً باعتماد «مبادرات تهدف إلى تطوير أنظمة الدفع بما يؤدي إلى العودة إلى الدفع الإلكتروني».
وهنا يبرز السؤال التالي: ما قصة هذه التطبيقات الالكترونية التي حمّلها مصرف لبنان مسؤولية ارتفاع الدولار، وهل صحيح انها مشبوهة، ولماذا أصدر المركزي هذا البيان في هذا التوقيت، رغم ان هذه التطبيقات موجودة منذ بداية الأزمة، اي منذ حوالي السنتين؟
من الواضح أن توقيت ومضمون البيان يهدف فعلياً الى التالي:
اولا- كان لا بد من موقفٍ ما، يتخذه مصرف لبنان بسبب حالة القلق والغضب والارباك في الشارع نتيجة ارتفاع الدولار الى مستويات جديدة غير مسبوقة، مع ما استتبع ذلك من ارتفاع في اسعار السلع وزيادة الضغوطات المعيشية على المواطنين. وبالتالي، جاء هذا البيان بمثابة رفعٍ للمسؤولية، ومحاولة رميها في اتجاه الادعاء على مجهول (التطبيقات).
ثانياً- اعتمد البيان اسلوب التمويه، اذ عندما يقول ان السعر الحقيقي للدولار هو ذلك المعتمد على منصة صيرفة التي يشرف عليها المصرف، فهذا يعني ان المركزي يعترف ضمنا بأن الدولار في هذه الحقبة كان في مرحلة ارتفاع، بدليل ان دولار المنصة ارتفع بدوره من 17 الف ليرة الى 20600 ليرة. وبالتالي، النقاش الحقيقي ليس حول مبدأ انهيار الليرة، بل حول نسبة الانهيار، والتي يقول المركزي انها أقل بحوالي 20% عما يتمّ تداوله في السوق السوداء.
ثالثا- لا يعني ذلك ان التطبيقات لا تلعب دورا هامشيا في التأثير على سعر الدولار بنسبة معينة طبعا، ولفترة زمنية محدودة.
وهنا، ينبغي الفصل بين مبدأ انهيار الليرة، وهو امر ثابت ويرتبط بالوضع المالي والاقتصادي المستمر في التراجع منذ سنتين ونيف، وبين وجود مجموعات مضاربة تستفيد من الظروف العشوائية في السوق السوداء لتحقيق ارباح مالية كبيرة لا يمكن تحقيقها في اسواق الصرف الشرعية المضبوطة من قبل المصارف المركزية. هذه المجموعات استهدفها بيان المركزي ببيانه.
كذلك تجدر الاشارة الى ان المضاربات الظرفية، لا تعني دائما رفع سعر صرف الدولار اصطناعياً لفترة زمنية محددة قبل ان يعود السوق الى تصحيح وضعه. بل ان تحقيق الارباح غير المشروعة عبر المضاربة، يقوم على مبدأ ابقاء السوق في حالة اضطراب، صعودا وهبوطا، وهذا ما أمكن ملاحظته بوضوح ابان تشكيل الحكومة وتراجع الدولار الى ما دون الـ14 الف ليرة. في هذه الحقبة ايضا تدخل المضاربون لتسريع ودعم الانخفاض، بهدف شراء اكبر كمية من الدولارات ومن ثم بيعها لاحقا على سعر مرتفع. وهذا ما حصل فعلا، وسمح لبعض المضاربين الكبار بتحقيق ارباح بلغت نسبتها اكثر من 50% في غضون شهرٍ واحد.
في النتيجة، التطبيقات والمضاربات ليست مسؤولة عن انهيار الليرة، ووقف هذا الانهيار معروفة دربه بوضوح، ولن تحصل قبل تنفيذ خطة للانقاذ بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي، لكن ضبط المضاربات الظرفية قبل الوصول الى المعالجة الشاملة، يحتاج الى توحيد سعر الصرف عبر منصة واحدة. وهذا الامر وارد، وهو مطلب رئيسي لصندوق النقد الدولي. لكن الظروف لم تنضج بعد لاقراره. وبالانتظار ستبقى سوق الصرف متقلبة وعشوائية ويستحيل ضبطها كما ينبغي.
السهم